في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008، تعرض ويليام مولر وهو في السادسة من عمره، لأول نوبة صرع أثناء إحدى حصص القراءة في المدرسة، حيث تجمد في مكانه لمدة نحو 20 ثانية، كما لو أن أحدا قد ضغط على زر إيقاف الحركة، ولم يستطع التجاوب مع مدرسته.
تعرف هذه الحالة باسم «نوبة صرعية مصحوبة بغيبة» (absence seizure). وعلى مدار العام التالي، انتقل ويليام، الذي أصبح الآن في العاشرة من عمره ويسكن مع عائلته في بروكلين، من مرحلة التعرض لنوبة أو اثنتين في اليوم إلى المعاناة من نوبات متواصلة. ولم تكن كلها نوبات صرعية مصحوبة بغيبة، بل كانت هناك نوبات أخرى من «الصرع التوتري الارتعاشي» (tonic – clonic)، الذي يعرف أيضا باسم «الصرع الكبير» (grand mal)، كان يصاب خلالها بتشنجات وفقدان للوعي.
نوبات أثناء الأكل
* وغالبا ما كانت النوبات تأتي أثناء تناول ويليام الطعام، وحينما يتصلب جسمه، كان الطعام يسقط من يديه وتغور عيناه في محجريهما. وإذا أصابته النوبة أثناء وقوفه، كان يخر فجأة على الأرض، سواء في أحد الممرات أو أمام مدخل المنزل أو على الدرج.
وتقول والدته، إليسا مولر، التي تعمل ممرضة أطفال: «أكثر ما يرعب أي أم هو أن تسمع صوت ذلك الارتطام. وفي كل مرة، كانت رأسه ترتطم بالأرض، تزداد الأمور سوءا أكثر فأكثر».
ويعد ويليام واحدا من ثلث مرضى الصرع الذين لا يستجيبون لأدوية الصرع، أو يستجيبون بدرجة ضعيفة. وهو يتلقى حاليا، مع آخرين غيره ممن لديهم حالات صرع مستعصية، علاجا جديدا يركز على الالتهابات، جاء نتاج أبحاث أجريت حول طبيعة الأضرار التي يسببها الصرع بالمخ.
ويقول أورين ديفنسكي، مدير «مركز الصرع الشامل» التابع لـ«مركز لانغون الطبي» بـ«جامعة نيويورك»، والطبيب المعالج لويليام: «كثيرون منا يعتقدون أن الاثنين مرتبطان – أي أن الالتهاب يسبب النوبات، والنوبات تسبب الالتهاب. ومع الوقت، قد يغذي كل منهما الآخر».
وهناك نحو 50 مليون شخص في جميع أنحاء العالم، منهم ما يزيد على 2.7 مليون شخص في الولايات المتحدة، يعانون من أحد أشكال الصرع، ونصف هؤلاء المرضى من الأطفال. وقد ينتج الصرع عن حدوث إصابة بالمخ، ولكن السبب في معظم الحالات يكون غير معروف، وربما يكون وراثيا. ومن الممكن أن يؤدي الصرع المستعصي، وهو النوع الذي لا يستجيب للعلاج والأدوية التي يحاول الأطباء علاجه من خلالها، إلى حدوث مشكلات في التعلم والذاكرة والسلوك طوال العمر.
التهاب الخلايا العصبية
* وتحدث نوبة الصرع حينما تبدأ مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية الموجودة في المخ في الالتهاب بدرجة تتعذر السيطرة عليها، مما يخل بتوازن النشاط الكهربائي ويحدث تغييرات في الوظائف العقلية والحركية والسلوك. وليس معروفا ما الذي يطلق النوبة، ولكن في الفترة الأخيرة، بدأ علماء مثل د.ديفنسكي في جمع أدلة على أن الالتهاب، وهو الاستجابة التي تصدر عن جهاز المناعة في حالة الإصابات أو وجود كائنات دخيلة، يلعب دورا محوريا في هذا.
وقد توصل العلماء منذ خمسينات القرن العشرين إلى أن الالتهاب له دخل بعلة ضارة للغاية بالمخ تسمى «التهاب راسموسن الدماغي» (Rasmussen’s encephalitis)، الذي يتسبب في حدوث تلك النوبات وعادة ما يحدث لدى الأطفال. وهذا الالتهاب يسبب أضرارا خطيرة بالمخ إلى درجة أن العلاج الذي يستخدم مع هذه الحالة في المعتاد هو «استئصال نصف الكرة الدماغية» (hemispherectomy) – وهو تدخل جراحي يتم فيه استئصال نصف المخ تماما. كما يشك بعض الباحثين في وجود ارتباط بين هذا الالتهاب ونوع آخر من الصرع يعرف باسم «التشنجات الطفولية» (infantile spasms)، نظرا لأن الأطفال الذين يعانون من هذا المرض يستجيبون لـ«الهرمون الموجه لقشر الكظر» (ACTH)، وهو هرمون يتم إفرازه في الغدة النخامية وله تأثير قوي مضاد للالتهاب.
وقد عثرت إليونورا أرونيكا، وهي اختصاصية في علم باثولوجي الأعصاب لدى «جامعة أمستردام»، على آثار التهابات في العينات التشريحية والأجزاء المستأصلة جراحيا من مرضى لديهم أنواع مختلفة من الصرع. كما قامت آنا ماريا فيتزاني، وهي اختصاصية في علم الأعصاب لدى «معهد ماريو نيغري لأبحاث العقاقير» في ميلان، بإحداث الصرع لدى الفئران والجرذان عن طريق حقن حمض الكاينيك داخل المخ، ولاحظت حدوث تنشيط لمسار خلوي مرتبط بالالتهاب قبل وأثناء النوبات، كما وجدت أيضا ارتباطا بين درجة الالتهاب داخل المخ ومعدل تكرار النوبات. وفي حوار أجري معها، ذكرت د.فيتزاني: «هذا اكتشاف جديد. لم يكن معروفا أن الالتهاب سمة مشتركة بين مختلف أنواع الصرع».
النوبات والالتهاب
* ويتم تنظيم عمل المخ الطبيعي عن طريق الخلايا الدبقية، التي تحمي الخلايا العصبية وتحفز الاستجابة في صورة التهاب إذا تعرض المخ لإصابة. إلا أن بعض الخبراء يرون أن هذه الاستجابة يمكن عزوها أيضا إلى النوبات، سواء لأن مكونات جهاز المناعة تستثير الخلايا العصبية أو لأن قدرة الخلايا الدبقية على تنظيم عمل المخ تتضاءل حينما تتعرض تلك الخلايا «للتشتيت» بفعل الإصابة. وكما يشير د.ديفنسكي، فإن النوبات بدورها قد تزيد من الالتهاب، مما يؤدي إلى استمرار هذه الدورة إلى ما لا نهاية.
وتعكف د.فيتزاني وزملاؤها حاليا على اختبار جزيء يسمى «في إكس – 765»، وهو يعمل على إعاقة عملية حدوث الالتهابات التي اكتشفتها. وفي إحدى الدراسات، أدت زيادة جرعات هذا العقار إلى تقليل عدد النوبات بمعدل الثلثين تقريبا لدى الفئران المصابة بصرع مقاوم للعلاج.
ولم يشعر 60 مريضا شملتهم تجربة تالية بتحسن دال إحصائيا بعد تعاطي عقار «في إكس – 765» لمدة 6 أسابيع، إلا أن عدد النوبات التي يتعرضون لها بدأ يقل في نهاية التجربة.
ويمر هذا العقار حاليا بالمرحلة الثانية من التجارب، التي تشمل 400 مريض. وتقول د.جاكلين فرينش، وهي اختصاصية أمراض عصبية لدى «مركز الصرع الشامل» التابع لـ«جامعة نيويورك» تترأس التجربة الجديدة: «قد تكون العلاجات المضادة للالتهاب مكملة على الأقل للأدوية المضادة للتشنجات، بل وربما تحل محلها».
ولا يعد الحلول محل الأدوية المضادة للتشنجات مجرد غاية في حد ذاته، فرغم أنها تمنح الكثيرين من مرضى الصرع حياة أفضل، فهي لا تؤثر في مسار المرض، بل تؤثر في أعراضه فحسب. ويأمل الباحثون في أن تساعد الأدوية المضادة للالتهاب على تحسين الأسباب الأصلية للصرع، إذ توضح د.فرينش: «إعطاء دواء قد يعالج الصرع، في مقابل علاج النوبات، سيكون أمرا جديدا للغاية».
غير أن هناك مخاطر في هذا المنهج، فربما تكون للستيرويدات – وهي عقاقير فعالة مضادة للالتهابات يستعملها بعض الأطباء في العلاجات التجريبية – آثار جانبية ضارة على المدى البعيد. وما زال غير واضح ما إذا كان الالتهاب قد يحدث مع جميع أنواع الصرع أو أي المرضى قد يفيد من العلاج بالأدوية المضادة للالتهاب.
وتقول د.تالي بارام، وهي خبيرة متخصصة في الصرع لدى «جامعة كاليفورنيا» في إرفين: «مثل أي مجال جديد، يكون هناك قدر كبير من الحماس، مع تدخل مسحة دينية في الأمر. إن التحدي القائم خلال السنوات القليلة القادمة هو التعرف على الحدود وأوجه القصور والآليات الفعلية».
ومع ذلك، مهما يكن دور الالتهاب في الصرع، تقول إليسا مولر إن الأدوية المضادة للالتهاب كانت بمثابة المعجزة بالنسبة لابنها. ففي أسوأ فترة مر بها ويليام، ذات ليلة من شهر يوليو (تموز) 2010، كان يتعرض لنوبة كلما غرق في النوم، فكان يعاني من 23 نوبة صرع كبير ما بين منتصف الليل والساعة السادسة صباحا.
وقد وصف له د.ديفنسكي حقنا أسبوعية من «البريدنيزون»، وفي محاولة يائسة من جانبها، قررت مولر أن تعطيه جرعة كبيرة منه. وهي تقول عن ذلك: «أعلم أنني كنت أعرض حياته للخطر، ولكن وجهة نظري في هذا كانت أنه سيموت على أي حال».
ومنذ تلك الليلة، لم يتعرض ويليام لأي نوبة أخرى، وما زال يتناول السترويدات ويسير أيضا على نظام حمية كيتوجيني، وهي حمية تتكون من أطعمة تحتوي على نسب عالية من الدهون ونسب منخفضة من الكربوهيدرات، وقد ثبتت فعاليتها مع الكثيرين ممن يعانون من صرع غير قابل للعلاج.
وتصف مولر السترويدات بأنها «الشيء الوحيد الذي رفضت التوقف عن إعطائه له. لقد كانت السنة الماضية أفضل وقت مر عليه في حياته».