يقول ابن القيم في "مدارج السالكين": "إنّه حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وهو ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن معصية الله، وصبرٌ على امتحان الله".
وسُمع شيخه "ابن تيمية" يقول: "كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره على المعصية فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس".. وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف.
وسمعه يقول: "أمر الله سبحانه في كتابه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل.. الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه".
والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل، وإنما ينافي الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله.
صبرٌ بالله: الاستعانة به ورؤيته أنه المصبِّر، (وَاصبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلا بالله) (النحل/ 126)، يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
صبرٌ لله: الباعث للمسلم على الصبر محبة الله والتقرب إليه، لا لإظهاره قوة النفس والاستحماد إلى الخلق.
صبرٌ مع الله: دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع الأحكام الدينية، صابراً نفسه معها، يتوجه معها أينما توجهت ركائبها.. فقد جعل نفسه وقفاً على أوامره ومحابه.. وهو صبر الصديقين.
وقيل: "الصبر بالله بقاء، ولله غناء، ومع الله وفاء، وفي الله بلاء، وعن الله جفاء".
ومن الناس من يدّعي محبة الله وحين يمتحنهم بالمكاره ينخلعون عن حقيقة المحبة ولا يثبت معه إلا الصابرون.. وقد تبيَّن بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبراً، ولهذا وصف الله بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه، فقال عن حبيبه أيوب (ع): (إنّا وجدناهُ صابِراً نِّعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ) (ص/ 44)، ثمّ أثنى عليه، فقال: "نعم العبد إنه أواب".
أمّا الصبر في المحن على أذى الظالمين وعند النوازل والبلاء، فإنّ العبد يستجلب الصبر ويستعين عليه بالآتي:
- ملاحظة حسن الجزاء.
- انتظار الفرج.
- تهوين البلية بأمرين؛ أولهما: أن يعد نعم الله وأياديه عنده، فإن عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله كقطرة في بحر.. وثانيهما: تذكر سوالف النعم (في الماضي).
وسُئل الشافعي: أيها أفضل الصبر أم المحنة أم التمكين؟ فقال يرحمه الله: "التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتُحن صبر وإذا صبر مُكِّن؛ ألا ترى أن الله عزّ وجلّ امتحن إبراهيم عليه السلام ثمّ مكَّنه، وامتحن موسى (ع) ثمّ مكَّنه، وامتحن أيوب (ع) ثمّ مكَّنه، وامتحن سليمان (ع) ثمّ مكَّنه وآتاه ملكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال الله عزّ وجلّ: (وكَذلك مكّنّا لِيُوسُفَ في الأرضِ) (يوسف/ 56)، وأيوب (ع) بعد المحنة العظيمة مُكِّن، قال الله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/ 84).
- خمس قواعد:
وجناح الشكر نصف الإيمان.. فالإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر.
وتظهر على العبد آثار نعمة الله، على لسان عبده ثناءً واعترافاً، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعة.
والشكر كما يقول "ابن القيم" مبنيٌّ على حمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.
فمن عظمت عليه نِعَم الله وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم، وخشيةُ العباد لله على قدر علمهم به.
- سجود الشكر:
هل جربت سجدة الشكر تأسياً بالرسول؟ ففي الحديث "أنّ النبي (ص) أتاه أمر فسُرَّ به فخر لله ساجداً"، قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وقال المنذري: وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بإسناد صحيح، ومن حديث كعب بن مالك.
- منفعة وإحسان:
وفي شكر المسلم انتفاعٌ له هو، فمنفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة لا إلى الله.. (وَمَن يَشْكُرْ فإنّما يَشْكُر لِنَفسِه) (لقمان/ 12)، فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه، لا أنه مكافئ به لنعم الرب، فالرب تعالى لا يستطيع أحدٌ أن يكافئ نعمه أبداً، ولا أقلها ولا أدناها.. فلا يستطيع أحدٌ أن يحصي ثناءً عليه، وقد أحسن الله إلى عبده بنعمه، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها، فشكرُه نعمة من الله تحتاج لشكر آخر.. وهكذا.
والعجيب أن من تمام نعمه سبحانه، وعظيم كرمه وجوده، أن يُنعم علينا ثمّ يوزعنا شكر النعمة، ويرضى عنا ثمّ يعيد إلينا منفعة شكرنا، ويجعله سبباً لتوالي نعمه واتصالها إلينا، والزيادة على ذلك منها: (وإنّ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) (الزمر/ 7).